/ / بوضياف.. عاشق المغرب المقتول بعد 166 يوماً من حُكم الجزائر

بوضياف.. عاشق المغرب المقتول بعد 166 يوماً من حُكم الجزائر


بريس نـال ـ هسبريس ـ إسماعيل عزام

"قطعـاً.. منذ الأزل، كنّا ننتظر بوضياف، دون أن ندري. ولكن بوضياف، ماذا تراه كان ينتظر؟ هو الذي قال يومها لزوجته "كلّ هذه الحفاوة لن تمنعهم من اغتيالي.. فلا ثقة لي في هؤلاء".
وعندما سألته إن كان جاء إذن بنية الانتحار. أجابها كمن لا مفر له من قدر: 'إنه الواجب.. كل أملي أن يمهلوني بعض الوقت'". أحلام مستغانمي، عن روايتها فوضى الحواس.
في مثل هذا اليوم من سنة 1992، اغْتيل الرئيس الجزائري الأسبق محمد بوضياف. حمله الواجب الوطني من منفاه الاختياري بمدينة القنيطرة المغربية وقرّر الاستجابة لنداء الجزائر بقبول الرئاسة في بلد كانَ يغلي: إلغاء الجيش فوزاً مستحقاً للإسلاميين في الانتخابات التشريعية، استقالة الرئيس الشاذلي بن جديد، أوضاع اقتصادية كارثية، ونزاع مسلح بدأت رحاه تدور بين تنظيمات إسلامية والجيش الجزائري.
كان ماضي بوضياف باعثاً على الاحترام في الجزائر، فهو واحد ممّن فجروا ثورة التحرير الجزائرية ضد الاستعمار الفرنسي، وأحد المقاومين الذين اختطفتهم فرنسا في حادث الطائرة الشهير سنة 1956. كما كان من أوائل من خالف رغبة جبهة التحرير الوطني الجزائرية بالاستيلاء على الحكم بعد رحيل الفرنسيين، فقد كان مؤمنا بالتعددية السياسية، وهو ما حذا به إلى تأسيس حزب جديد، هو حزب الثورة الاشتراكية.
بعد أن سجنه الفرنسيون، أعاده رفاقه الجزائريون إلى السجن بحكم الإعدام من خلال تهمة التآمر على أمن الدولة قبل أن يُفرج عنه. وبعد تنقل مستمر، اختار سنة 1979 حلّ حزبه والابتعاد نهائياً عن عوالم السياسية، حيثُ تفرّغ لمعمل الآجر الخاص به في مدينة القنطيرة، ليقرر بعد مفاوضات عسيرة، الاستجابة لدعوة الجيش بالعودة إلى البلاد بعد 27 سنة من الغياب، وترؤسها في مرحلة حساسة خلال يناير 1992.
غير أن عودة بوضياف إلى الجزائر لم تكن على المقاس التي أراده الجيش، فقد باشر حملة لمكافحة الفساد، وكشف عن أسماء بعض المتورطين في اختلاس أموال الدولة، كما وعد بمحاربة الرشوة وكل مظاهر الشطط في استعمال السلطة، وظهر جلياً أن "الديكور" الذي تمنته الجنرالات، لن يتحقق في بوضياف.
وفي الجانب الآخر لم ترحب الجبهة الإسلامية للإنقاذ بعودته، فقد رأت فيه مشاركاً للجيش الجزائري في عملية حرمانها من السلطة بقبوله ترؤس المجلس الأعلى للدولة، فضلاً عن علاقته المتوترة بإسلاميي الجزائر، فقد كان يراهم متورطون في أعمال العنف، ولذلك هاجمهم في تصريحاته أكثر من مرة.
ويضيف الكاتب السياسي أنور مالك سبباً آخر لتأزم العلاقة بين بوضياف والنخبة العسكرية، ويتعلق أساساً بعلاقاته القوية بالمغرب، فقد حاولوا منعه من زيارة أسرته بمدينة القنطيرة بعد وصوله للرئاسة، وطالبوه بعدم التخلي عن الموقف الجزائري الخاص بدعم جبهة البوليساريو، في وقت كانت أفكاره تسير في اتجاه إيجاد حل يرضي جميع الأطراف، ومن بينهم المغرب، لا سيما وأنه كان مقرباً من الملك الراحل الحسن الثاني.
هكذا، وفي ظرف أقل من ستة أشهر من الحكم، ظهر جلياً أن بوضياف كان الرجل المناسب في الزمان والمكان غير المناسبين، والنتيجة، أن تمّ اغتياله في مدينة عنابة من طرف أحد حراسه، قيل إنه كان على علاقة قوية بالقياديين العسكريين المناوئين لبوضياف.
"يجب أن نضع مقاييس في ما يخص المسؤوليات وهي الكفاءة والنزاهة والإجتهاد في العمل..والدول اللّي فاتتنا فاتتنا بالعلم، والدين نتاع الإسلام.." لم يتركه القاتل حتى ليكمل جملته، كي يسمع ماذا يريد قوله عندما بدأ بالحديث عن الدين الإسلامي، فقد أفرغ فيه رصاص رشاشه. لترتدي الجزائر السواد، ويُقتلع آخر أمل في تفادي سيناريو التطاحن الداخلي، حيث دخلت الجزائر بعد وفاته في عشرية دموية وصل عدد ضحاياها إلى 200 ألف قتيل.
ادعت السلطات الجزائرية أنها باشرت تحقيقاً حول عملية اغتياله ودوافع إطلاق النار عليه من ملازم في القوات الخاصة، إلا أنها خلصت إلى أن الأمر كان قراراً منعزلاً من القاتل، في وقت يعرف فيه الجميع، أن الاغتيالات السياسية، لا تكون أبداً معزولة، وأن لطرف أو أطراف ما مصلحة في عملية الاغتيال.
لا زالت ذكراه تغمر مدينة القنيطرة المغربية، وبالضبط بشارع الإمام علي حيث كان يسكن، يتذكر العشرات من القنيطريين جزائريا شهماً لم يقتنع بكل الأطروحات التي حاولت تأزيم الوضع بين البلدين، وقرّر الإبقاء على أسرته في المغرب حتى بعد وصوله الرئاسة. زعيم سياسي أبان عن رغبة كبيرة في الإصلاح خلال فترة حكم لم تتجاوز 166 يوماً دون أي مطامح شخصية، إلا أن الثورة التي ساهم في تفجيرها ذات يوم، التهمته حياً ودون استحياء أمام عدسات الكاميرات!
الموضوع السابق :إنتقل إلى الموضوع السابق
الموضوع التالي :إنتقل إلى الموضوع القادم

لا توجد تعاليق :

أضف تعليقا