/ / المهدي‭ ‬المنجرة‭ ‬.. عالم المستقبليات الذي‭ ‬أُريدَ ‬له‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬ماضيا

المهدي‭ ‬المنجرة‭ ‬.. عالم المستقبليات الذي‭ ‬أُريدَ ‬له‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬ماضيا


بريس نـال ـ هسبريس ـ إسماعيل التزارني (كاريكاتير خالد كدّار)

بعد‭ ‬مسار‭ ‬مليئ‭ ‬بالعطاءات‭ ‬والإنجازات‭ ‬والكتب‭ ‬والمحاضرات‭ ‬تعكس‭ ‬غيرة وخوفا ‬على‭ ‬مستقبل‭ ‬المغرب، توفي يوم الجمعة الماضي، المفكر المغربي وعالم المستقبليات المهدي المنجرة عن سن يناهز 81 عاما، إثر معاناة مع المرض.
‬عاش الرجل إلى حدود يوم الجمعة‭ ‬طريح‭ ‬الفراش، ‬أما‭ ‬المسؤولون‭ ‬الذين‭ ‬طالما‭ ‬أرقهم‭ ‬كلامه‭ ‬فإنهم‭ ‬نسوه،‭ ‬بل‭ ‬تناسوه، ‬لأن‭ ‬المرض‭ ‬ناب‭ ‬عنهم‭ ‬في‭ ‬منعه‭ ‬من‭ ‬محاضراته‭ ‬التي‭ ‬تزعجهم.
هسبريس تعيد نشر بورتريه الراحل الذي أعده الزميل إسماعيل التزارني في أبريل 2013.

في‭ ‬سنة‭ ‬1924‭ ‬كان‭ ‬الطيار‭ ‬امحمد‭ ‬المنجرة‭ ‬من‭ ‬بين‭ ‬المؤسسين‭ ‬لأول‭ ‬نادي‭ ‬للطيران‭ ‬في‭ ‬المغرب،‭ ‬بل‭ ‬في‭ ‬العالم‭ ‬العربي، بعدها ‬بتسع‭ ‬سنوات‭ ‬قرر‭ ‬المغرب‭ ‬إجراء‭ ‬أول‭ ‬رحلة‭ ‬جوية‭ ‬في‭ ‬اتجاه‭ ‬الجارة‭ ‬الجزائر،‭ ‬لكن‭ ‬الطيار‭ ‬امحمد‭ ‬اعتذر‭ ‬عن‭ ‬المشاركة‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬الرحلة‭ ‬لأن‭ ‬زوجته‭ ‬حامل‭ ‬على‭ ‬وشك‭ ‬الوضع‭. ‬هكذا‭ ‬تخلف‭ ‬عن‭ ‬هذه‭ ‬الرحلة‭ ‬التي‭ ‬شارك‭ ‬فيها‭ ‬صديقه‭ ‬الطيار‭ ‬المهدي‭ ‬الصقلي‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬من‭ ‬أبرز‭ ‬الوطنيين‭ ‬آنذاك.‭
‬على‭ ‬الساعة‭ ‬السادسة‭ ‬صباحا‭ ‬طرق‭ ‬ساعي‭ ‬البريد‭ ‬بالرباط‭ ‬بيت‭ ‬المنجرة‭ ‬ليسلمه‭ ‬برقية‭ ‬وجد‭ ‬فيها: "‬لقد‭ ‬وصلنا‭ ‬بخير‭ ‬والرحلة‭ ‬مرت‭ ‬على‭ ‬أحسن‭ ‬وجه‭.. ‬تحيات‭ ‬المهدي‭ ‬الصقلي‮"‬،‭ ‬وفي‭ ‬الصباح‭ ‬ذاته‭ ‬من‭ ‬سنة‭ ‬1933‭ ‬وضعت‭ ‬زوجة‭ ‬الطيار‭ ‬المنجرة‭ ‬مولودا‭ ‬ذكرا‭ ‬قرر‭ ‬والده‭ ‬أن‭ ‬يسميه‭ ‬المهدي‭ ‬تيمنا‭ ‬بصديقه‭ ‬المهدي‭ ‬الصقلي‭.‬

ابن‭ ‬الطيار

إنه‭ ‬عالم‭ ‬المستقبليات‭ ‬المهدي‭ ‬المنجرة‭ ‬الذي‭ ‬درس‭ ‬بمدرسة ديكارت‭ ‬بالعاصمة‭ ‬الإدارية‭ ‬الرباط،‭ ‬وهي‭ ‬من‭ ‬أعرق‭ ‬المدارس‭ ‬الفرنسية‭ ‬بالمغرب‭. ‬كما‭ ‬تلقى‭ ‬دراسته‭ ‬الجامعية‭ ‬بالولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬الأمريكية‭ ‬بجامعة‭ ‬كورنيل‭، ‬حصل‭ ‬على‭ ‬الإجازة‭ ‬في‭ ‬البيولوجيا‭ ‬والعلوم‭ ‬السياسية‭ ‬ثم‭ ‬تابع‭ ‬دراسته‭ ‬بإنجلترا‭ ‬وحصل‭ ‬هناك‭ ‬على‭ ‬الدكتوراه‭ ‬في‭ ‬الاقتصاد.
كل‭ ‬هذا‭ ‬المسار‭ ‬العلمي‭ ‬للمنجرة‭ ‬ساعده‭ ‬في‭ ‬أن‭ ‬يتقن‭ ‬علم‭ ‬المستقبليات،‭ ‬المجال‭ ‬الذي‭ ‬ألف‭ ‬فيه‭ ‬عددا‭ ‬كبيرا‭ ‬من‭ ‬الكتب،‭ ‬بل‭ ‬وحاضر‭ ‬فيه‭ ‬في‭ ‬العديد‭ ‬من‭ ‬الدول،‭ ‬لكنه‭ ‬بالمقابل‭ ‬منع‭ ‬أزيد‭ ‬من‭ ‬عشر‭ ‬مرات‭ ‬من‭ ‬المحاضرة‭ ‬بمدن‭ ‬مغربية‭ ‬من‭ ‬طرف‭ ‬السلطات‭.‬
سنة‭ ‬1958‭ ‬كان‭ ‬المهدي‭ ‬المنجرة‭ ‬من‭ ‬بين‭ ‬الأساتذة‭ ‬الأوائل‭ ‬الذين‭ ‬قاموا‭ ‬بالتدريس‭ ‬بجامعة‭ ‬محمد‭ ‬الخامس‭. ‬وقبلها‭ ‬بأربع‭ ‬سنوات‭ ‬فقط‭ ‬كان‭ ‬قد‭ ‬شد‭ ‬الرحال‭ ‬إلى‭ ‬لندن‭ ‬لتحضير‭ ‬الدكتوراه‭ ‬في‭ ‬موضوع‭ ‬حول‭ ‬الجامعة‭ ‬العربية،‭ ‬وفي‭ ‬السنة‭ ‬الموالية‭ ‬أي‭ ‬1955‭ ‬حصل‭ ‬على‭ ‬منحة‭ ‬من‭ ‬مؤسسة‭ ‬روكفلر‭ ‬مكنته‭ ‬من‭ ‬السفر‭ ‬إلى‭ ‬مصر‭ ‬للالتقاء‭ ‬ببعض‭ ‬المسؤولين‭ ‬في‭ ‬الجامعة‭ ‬العربية‭. ‬
وهناك‭ ‬في‭ ‬بلاد‭ ‬الفراعنة‭ ‬التقى‭ ‬بأسد‭ ‬الريف‭ ‬المجاهد‭ ‬امحمد‭ ‬بن‭ ‬عبد‭ ‬الكريم‭ ‬الخطابي‭، ‬كما‭ ‬حظي‭ ‬باستقبال‭ ‬من‭ ‬الراحل‭ ‬محمد‭ ‬الخامس‭ ‬بباريس‭ ‬وهو‭ ‬في‭ ‬طريق‭ ‬عودته‭ ‬من‭ ‬المنفى‭ ‬إلى‭ ‬أرض‭ ‬الوطن‭ ‬قبيل‭ ‬الاستقلال‭.
‬ليلتقيه‭ ‬للمرة‭ ‬الثانية‭ ‬سنة‭ ‬1959‭ ‬إذ‭ ‬استقبله‭ ‬الراحل‭ ‬كأول‭ ‬أستاذ‭ ‬مغربي‭ ‬بكلية‭ ‬الحقوق،‭ ‬وأصغر‭ ‬الأساتذة‭ ‬سنا‭ ‬بها‭ ‬وعينه‭ ‬مديرا‭ ‬للإذاعة‭ ‬والتلفزة‭ ‬المغربية‭ ‬خلفا‭ ‬لقاسم‭ ‬الزهيري‭.‬

الكلب‭ ‬والسفر‭ ‬إلى‭ ‬أمريكا

كان‭ ‬المهدي‭ ‬المنجرة‭ ‬سنة‭ ‬1948‭ ‬بأحد‭ ‬المسابح‭ ‬بمدينة‭ ‬إفران،‭ ‬حيث‭ ‬كان‭ ‬في‭ ‬المسبح‭ ‬عدد‭ ‬من‭ ‬المغاربة‭ ‬والفرنسيين‭. ‬بينما‭ ‬هو‭ ‬هناك،‭ ‬اقترب‭ ‬كلب‭ ‬من‭ ‬المسبح‭ ‬وبدأ‭ ‬يشرب‭ ‬من‭ ‬مياهه،‭ ‬الأمر‭ ‬الذي‭ ‬أثار‭ ‬حفيظة‭ ‬إحدى‭ ‬النساء‭ ‬التي‭ ‬طالبت‭ ‬بإبعاده‭.
‬لكن‭ ‬أحد‭ ‬الفرنسيين‭ ‬خاطبها‭ ‬قائلا‭:‬‮"‬إذا‭ ‬كان‭ ‬العرب‭ ‬يسبحون‭ ‬في‭ ‬المسبح‭ ‬فلماذا‭ ‬نمنع‭ ‬الكلاب‭ ‬من‭ ‬ذلك‮"‬‭ ‬وهي‭ ‬العبارة‭ ‬العنصرية‭ ‬التي‭ ‬أغضبت‭ ‬الشاب‭ ‬المهدي‭ ‬المنجرة‭ ‬لينخرط‭ ‬في‭ ‬مشادات‭ ‬كلامية‭ ‬مع‭ ‬هذا‭ ‬الفرنسي‭.
ولسوء‭ ‬حظ‭ ‬المنجرة‭ ‬كان‭ ‬هذا‭ ‬الفرنسي‭ ‬رئيس‭ ‬فرقة‭ ‬الأمن‭ ‬الإقليمي‭ ‬بإفران،‭ ‬لذلك‭ ‬لم‭ ‬يتردد‭ ‬في‭ ‬اعتقاله‭ ‬مدة‭ ‬عشرة‭ ‬أيام‭. ‬بعد‭ ‬خروجه‭ ‬من‭ ‬الاحتجاز‭ ‬أرسله‭ ‬والده‭ ‬إلى‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬الأمريكية‭ ‬لمتابعة‭ ‬دراسته‭ ‬هناك‭.‬
وهناك‭ ‬في‭ ‬بلاد‭ ‬العم‭ ‬سام‭ ‬أسس‭ ‬النادي‭ ‬العربي،‭ ‬وعمل‭ ‬مديرا‭ ‬للمجلس‭ ‬الدولي‭ ‬للطلبة‭. ‬كما‭ ‬كان‭ ‬أحد‭ ‬مؤسسي‭ ‬النادي‭ ‬الشرقي‭ ‬وعضوا‭ ‬في‭ ‬جمعية‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬عالم‭ ‬جديد، كل‭ ‬هذه‭ ‬الدينامية‭ ‬والحيوية‭ ‬كانت‭ ‬توحي‭ ‬بأن‭ ‬المهدي‭ ‬المنجرة‭ ‬سيكون‭ ‬له‭ ‬شأن‭ ‬عظيم‭ ‬في‭ ‬المستقبل‭.‬
في‭ ‬سنة‭ ‬1954‭ ‬حيث‭ ‬كان‭ ‬المنجرة‭ ‬مازال‭ ‬يتابع‭ ‬دراسته‭ ‬في‭ ‬أمريكا،‭ ‬نشبت‭ ‬حرب‭ ‬مع‭ ‬كوريا‭ ‬فطلب‭ ‬من‭ ‬الطالب‭ ‬المهدي‭ ‬التجنيد‭ ‬لأنه‭ ‬يتوفر‭ ‬على‭ ‬البطاقة‭ ‬الخضراء‭ ‬لكنه‭ ‬رفض‭، ‬أما‭ ‬هجرته‭ ‬إلى‭ ‬اليابان‭ ‬فجاءت‭ ‬بعد‭ ‬منعه‭ ‬من‭ ‬إلقاء‭ ‬محاضرة‭ ‬بمدينة‭ ‬فاس‭.‬

السؤال‭ ‬المؤرق

إن‭ ‬السؤال‭ ‬الذي‭ ‬يؤرق‭ ‬عالم‭ ‬المستقبليات‭ ‬هو: ‬إلى‭ ‬أين‭ ‬نسير؟‭ ‬خصوصا‭ ‬وهو‭ ‬يلاحظ‭ ‬غياب‭ ‬رؤية‭ ‬مستقبلية‭ ‬لدى‭ ‬القائمين‭ ‬على‭ ‬الأمور‭ ‬في‭ ‬البلاد‭. ‬
لذلك‭ ‬لا‭ ‬يتردد‭ ‬في‭ ‬القول‭ ‬كلما‭ ‬سمحت‭ ‬له‭ ‬الفرصة‭ ‬لذلك‭: ‬‮"‬أتحدى‭ ‬أي‭ ‬شخص‭ ‬أن‭ ‬يعطي‭ ‬رؤية‭ ‬شاملة‭ ‬حول‭ ‬مستقبل‭ ‬المغرب،‭ ‬للأسف‭ ‬الكل‭ ‬مشغول‭ ‬بالآنية‭ ‬وما‭ ‬يسمى‭ ‬بالانتقال،‭ ‬وأنا‭ ‬أتساءل‭ ‬الانتقال‭ ‬إلى‭ ‬أين؟‮"‬‭ ‬.
هكذا‭ ‬ظلت‭ ‬هذه‭ ‬الأسئلة‭ ‬تؤرق‭ ‬بال‭ ‬المنجرة‭ ‬الذي‭ ‬يؤكد‭ ‬أن‭: ‬‮"‬علم‭ ‬المستقبليات‭ ‬ليس‭ ‬تنبؤا‭ ‬لأنه‭ ‬موجود‭ ‬عند‭ ‬البشر،‭ ‬والتنبؤ‭ ‬كان‭ ‬لخاتم‭ ‬الرسل‭ ‬محمد‭ ‬صلى‭ ‬الله‭ ‬عليه‭ ‬وسلم‮"‬‭ ‬وما‭ ‬يزيد‭ ‬من‭ ‬قلق‭ ‬المهدي‭ ‬المنجرة‭ ‬على‭ ‬الوضع،‭ ‬ليس‭ ‬فقط‭ ‬انشغال‭ ‬السياسيين‭ ‬بالآني،‭ ‬بل‭ ‬حتى‭ ‬صمت‭ ‬المؤرخين‭ ‬وانكبابهم‭ ‬فقط‭ ‬على‭ ‬تاريخ‭ ‬القرون‭ ‬الوسطى‭ ‬متناسين‭ ‬الحاضر‭ ‬وغافلين‭ ‬كليا‭ ‬عن‭ ‬المستقبل‭. ‬
تفتقت‭ ‬عبقرية‭ ‬المنجرة‭ ‬منذ‭ ‬ريعان‭ ‬شبابه‭ ‬فقد‭ ‬طرد‭ ‬من‭ ‬ثانوية‭ ‬ليوطي‭ ‬سنة‭ ‬1948‭ ‬لأسباب‭ ‬سياسية‭ ‬محضة، ‬لقد‭ ‬كان‭ ‬يواجه‭ ‬الأساتذة‭ ‬الفرنسيين‭ ‬ويناقشهم‭ ‬بحدة‭ ‬فيما‭ ‬يخص‭ ‬موضوع‭ ‬الاستعمار‭ ‬الفرنسي‭ ‬للمغرب‭. ‬في‭ ‬سنة‭ ‬1954‭ ‬حصل‭ ‬على‭ ‬جائزة‭ ‬الإمبراطور‭ ‬الياباني‭ ‬عن‭ ‬بحث‭ ‬بخصوص‭ ‬أهمية‭ ‬النموذج‭ ‬الياباني‭ ‬بالنسبة‭ ‬للعالم‭ ‬الثالث‭.‬

سابق‭ ‬لعصره

‮"‬التغيير‭ ‬آت‭ ‬أحب‭ ‬من‭ ‬أحب‭ ‬وكره‭ ‬من‭ ‬كره"..
السؤال‭ ‬الوحيد‭ ‬الذي‭ ‬يجب‭ ‬أن‭ ‬نفكر‭ ‬فيه‭ ‬هو‭ ‬ثمن‭ ‬هذا‭ ‬التغيير،‭ ‬فكل‭ ‬تأخير‭ ‬سيدفع‭ ‬عنه‭ ‬الثمن‮"‬‭ ‬هذه‭ ‬العبارة‭ ‬قالها‭ ‬عالم‭ ‬المستقبليات‭ ‬المهدي‭ ‬المنجرة‭ ‬قبل‭ ‬الربيع‭ ‬العربي‭ ‬بكثير،‭ ‬وهي‭ ‬العبارة‭ ‬التي‭ ‬تلقتها‭ ‬العديد‭ ‬من‭ ‬الآذان‭ ‬باعتبارها‭ ‬ترفا‭ ‬فكريا‭ ‬لا‭ ‬غير‭. ‬لكن‭ ‬أحداث‭ ‬الربيع‭ ‬العربي‭ ‬التي‭ ‬افتتحتها‭ ‬ولاعة‭ ‬البوعزيزي‭ ‬أكدت‭ ‬أن‭ ‬كلام‭ ‬الرجل‭ ‬علم‭ ‬مدروس‭ ‬بدقة‭. ‬
كما‭ ‬تأكد‭ ‬كلامه‭ ‬الذي‭ ‬قسم‭ ‬فيه‭ ‬الزمن‭ ‬إلى‭ ‬ما‭ ‬قبل‭ ‬التغيير‭ ‬وما‭ ‬بعد‭ ‬التغيير‮"‬‭ ‬في‭ ‬عهد‭ ‬ما‭ ‬قبل‭ ‬العهد‭ ‬الجديد،‭ ‬فالتغيير‭ ‬هو‭ ‬مفهوم‭ ‬منظومي‭ ‬يأتي‭ ‬بصورة‭ ‬شمولية،‭ ‬إذ‭ ‬عندما‭ ‬يحدث‭ ‬يطال‭ ‬جميع‭ ‬الميادين‮…‬‭ ‬والتغيير‭ ‬الوحيد‭ ‬الذي‭ ‬لاحظناه‭ ‬هو‭ ‬تغيير‭ ‬الذين‭ ‬أتوا‭ ‬بقصد‭ ‬التغيير‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬نلمس‭ ‬أي‭ ‬تغيير‮".
أما‭ ‬ثمن‭ ‬التغيير‭ ‬الذي‭ ‬طالما‭ ‬حذر‭ ‬منه‭ ‬فإنه‭ ‬جاء‭ ‬غاليا‭.‬
‮"‬يكتب‭ ‬لفترة‭ ‬لا‭ ‬يعتقد‭ ‬أنه‭ ‬سيعيشها،‭ ‬أي‭ ‬أنه‭ ‬لا‭ ‬يكتب‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬مصالحه‭ ‬اللحظية‭ ‬والقصيرة‭ ‬المدى‮"‬‭ ‬هذا‭ ‬هو‭ ‬علم‭ ‬المستقبليات‭ ‬بتعبير‭ ‬المهدي‭ ‬المنجرة‭. ‬
يقول‭ ‬في‭ ‬كتابه‭ ‬‮"‬الإهانة‭ ‬في‭ ‬عهد‭ ‬الميغا‭ ‬إمبريالية‮"‬‭: ‬الرفض‭ ‬أن‭ ‬تقول‭: ‬‮"‬لا…لا‭ ‬للاستبداد‭ ‬لا‭ ‬للظلم‭ ‬لا‭ ‬للقمع‮…‬‭ ‬هذا‭ ‬الرفض‭ ‬كله‭ ‬بلا‭ ‬عنف،‭ ‬وبلا‭ ‬انتفاضة‭ ‬حجر،‭ ‬وبلا‭ ‬رصاص،‭ ‬فقط‭ ‬بقوة‭ ‬لا‮"‬‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬حدث‭ ‬تماما‭ ‬في‭ ‬ثورات‭ ‬الربيع‭ ‬العربي،‭ ‬إذ‭ ‬خرج‭ ‬المتظاهرون‭ ‬بصدور‭ ‬عارية‭ ‬وتمكنوا‭ ‬من‭ ‬الإطاحة‭ ‬بالأنظمة‭.‬

رجل‭ ‬الكرامة

رغم‭ ‬أنه‭ ‬أهين‭ ‬في‭ ‬العديد‭ ‬من‭ ‬المرات‭ ‬في‭ ‬بلده‭ ‬المغرب،‭ ‬حيث‭ ‬منعت‭ ‬محاضراته‭ ‬في‭ ‬مدن‭ ‬مغربية‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬تخبره‭ ‬السلطات‭ ‬عن‭ ‬سبب‭ ‬المنع،‭ ‬إلا‭ ‬أنه‭ ‬ما‭ ‬فتئ‭ ‬يدافع‭ ‬عن‭ ‬الكرامة‭ ‬الإنسانية‭ ‬كلما‭ ‬سنحت‭ ‬له‭ ‬الفرصة‭ ‬بذلك‭. ‬لم‭ ‬يتوقف‭ ‬أثناء‭ ‬نضاله‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬الكرامة‭ ‬عند‭ ‬حد‭ ‬الكلام‭ ‬والكتابة‭ ‬والمحاضرات‭. ‬بل‭ ‬إنه‭ ‬خصص‭ ‬من‭ ‬ريع‭ ‬كتبه‭ ‬جائزة‭ ‬لذلك‭.‬
كان‭ ‬المنجرة‭ ‬قد‭ ‬أحدث‭ ‬جائزة‭ ‬‮"‬الحوار‭ ‬الثقافي‭ ‬شمال‭-‬جنوب‮"‬‭ ‬عقب‭ ‬صدور‭ ‬كتابه‭ ‬‮"‬‭ ‬الحرب‭ ‬الحضارية‭ ‬الأولى، وهي‭ ‬الجائزة‭ ‬التي‭ ‬تمنح‭ ‬منذ‭ ‬1992‭ ‬يوم‭ ‬17يناير‭ ‬من‭ ‬كل‭ ‬سنة،‭ ‬وهو‭ ‬اليوم‭ ‬الذي‭ ‬يصادف‭ ‬ذكرى‭ ‬اندلاع‭ ‬حرب‭ ‬الخليج‭ ‬الأولى، ‬هذه‭ ‬الجائزة‭ ‬حولها‭ ‬المنجرة‭ ‬إلى‭ ‬جائزة‭ ‬الكرامة،‭ ‬ينالها‭ ‬كل‭ ‬من‭ ‬يدافع‭ ‬عن‭ ‬الكرامة‭.‬
بعد‭ ‬هذا‭ ‬المسار‭ ‬المليئ‭ ‬بالعطاءات‭ ‬والإنجازات‭ ‬والكتب‭ ‬والمحاضرات‭ ‬تعكس‭ ‬غيرة‭ ‬المهدي‭ ‬المنجرة‭ ‬وخوفه‭ ‬على‭ ‬مستقبل‭ ‬المغرب،‭ ‬بل‭ ‬مستقبل‭ ‬البشرية‭ ‬جمعاء، عاش المهدي‭ ‬المنجرة‭ ‬‬طريح‭ ‬الفراش، أما‭ ‬المسؤولون‭ ‬الذين‭ ‬طالما‭ ‬أرقهم‭ ‬كلامه‭ ‬فإنهم‭ ‬نسوه،‭ ‬بل‭ ‬تناسوه‭. ‬لأن‭ ‬المرض‭ ‬ناب‭ ‬عنهم‭ ‬في‭ ‬منعه‭ ‬من‭ ‬محاضراته‭ ‬التي‭ ‬تزعجهم‭.
الزلة‭ ‬الوحيدة‭ ‬التي‭ ‬ارتكبها‭ ‬المهدي‭ ‬المنجرة‭ ‬هو‭ ‬أنه‭ ‬ولد‭ ‬في‭ ‬وطن‭ ‬عاق،‭ ‬لا‭ ‬يعترف‭ ‬بالجميل‭ ‬الذي‭ ‬يقدمه‭ ‬له‭ ‬بعض‭ ‬أبنائه.

المهـدي‭ ‬المنجـرة‭ ‬ليس‭ ‬شخصــا‭ ‬لذاتــه

الحياة‭ ‬الشخصية‭ ‬والاجتماعية‭ ‬للأستاذ‭ ‬المهدي‭ ‬المنجرة‭ ‬تظهر‭ ‬من‭ ‬خلال،‭ ‬زيارة‭ ‬منزله‭. ‬فالداخل‭ ‬إليه‭ ‬سيجد‭ ‬‮"‬صالونا‭ ‬بلديا‮"‬‭ ‬وآخر‭ ‬غربيا. والمنزل‭ ‬كله‭ ‬عبارة‭ ‬عن‭ ‬مكتبة،‭ ‬وأينما‭ ‬تجولت‭ ‬في‭ ‬أرجاء‭ ‬المنزل‭ ‬ستجد‭ ‬كتبا‭ ‬أو‭ ‬مجلات،‭ ‬ما‭ ‬يعكس‭ ‬تعلقه‭ ‬بالقراءة‭ ‬والكتابة‭. ‬
المنجرة‭ ‬إنسان‭ ‬منفتح‭ ‬على‭ ‬الحداثة،‭ ‬لكنه‭ ‬مغربي‭ ‬أصيل‭ ‬لا‭ ‬يتنكر‭ ‬لمغربيته، ‬بل‭ ‬يعتز‭ ‬بها‭ ‬ولا‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬يزايد‭ ‬عليه‭ ‬أحد‭ ‬في‭ ‬ذلك، فرغم‭ ‬أن‭ ‬تكوينه‭ ‬الأكاديمي‭ ‬كان‭ ‬بإنجلترا‭ ‬إلا‭ ‬أنه‭ ‬يبقى‭ ‬المهدي‭ ‬المنجرة‭ ‬المغربي‭ ‬البسيط،‭ ‬الذي‭ ‬يعيش‭ ‬الطقوس‭ ‬والعادات‭ ‬المغربية‭ ‬بنوع‭ ‬من‭ ‬الاعتزاز.
أما‭ ‬التهميش‭ ‬الذي‭ ‬يتعرض‭ ‬له‭ ‬المنجرة‭ ‬فإنه‭ ‬ليس‭ ‬لذاته‭ ‬كشخص،‭ ‬وإنما‭ ‬تهميش‭ ‬لمنظومة‭ ‬الحداثة‭ ‬والتغيير‭ ‬في‭ ‬زمن‭ ‬الرداءة‭. ‬فليس‭ ‬المنجرة‭ ‬وحده‭ ‬من‭ ‬تعرض‭ ‬للتهميش،‭ ‬فهناك‭ ‬العديد‭ ‬من‭ ‬المفكرين‭ ‬طالهم‭ ‬التهميش‭.
لكن‭ ‬المنجرة‭ ‬كان‭ ‬أكثر‭ ‬تهميشا،‭ ‬بل‭ ‬إنه‭ ‬تعرض‭ ‬للمنع‭ ‬من‭ ‬المحاضرة‭ ‬بجامعات‭ ‬مغربية‭ ‬رغم‭ ‬أنه‭ ‬كان‭ ‬أول‭ ‬أستاذ‭ ‬مغربي‭ ‬درس‭ ‬بالجامعة‭ ‬المغربية‭ ‬وأصغر‭ ‬أستاذ‭ ‬بجامعة‭ ‬محمد‭ ‬الخامس‭.
المهدي‭ ‬المنجرة‭ ‬ليس‭ ‬شخصا‭ ‬لذاته‭ ‬إنه‭ ‬منظومة‭ ‬وبنيان،‭ ‬لقد‭ ‬نظر‭ ‬لقيم‭ ‬عالمية‭ ‬تجاوزت‭ ‬ما‭ ‬هو‭ ‬ذاتي‭.‬
الموضوع السابق :إنتقل إلى الموضوع السابق
الموضوع التالي :إنتقل إلى الموضوع القادم

لا توجد تعاليق :

أضف تعليقا